ما من حالة ثوريّة حقّا إلا حالة ما قبل الثورة ،
عندما ينخرط الناس في العبادة المزدوجة للمستقبل و للهدم.
ايميل سيوران
متلازمة Syndrome هي كلمة مشتقة من اللّغة اليونانية (Sundromos) تحيل الى معنى التزامن. حيث يكون المرض متزامنا مع ظهور الأعراض التي يسهل ملاحظتها سريريا. يعرّف معجم مصطلحات الطبّ النفسي (الشربيني ، 2003) المتلازمة Syndrome بكونها "تدلّ على مجموعة من الأعراض و العلامات المرضيّة تتواجد معا فتدلّ على حالة مرضيّة معيّنة ، و لها أمثلة كثيرة في كلّ فروع الطبّ بما فيها الأمراض العصبيّة و النفسيّة ، وغالبا ما تعرف باسم العالم أو الطبيب الذي وصفها للمرّة الأولى" .
هذا النصّ سيحاول ، اعتمادا على ما سجّله الباحثون في المجال النفسي ، تفسير نقاط الالتقاء بين بعض المتلازمات و أعراضها النفسيّة و بين ردود أفعال التونسيين و سلوك قادته السياسيين منذ تاريخ الثورة.
كتب نبيل البكاري
1.متلازمة ستوكهولم
في السويد عام 1973 هاجم سارقان فرعا بنكيّا Kreditbanken و قاموا باحتجاز أربعة رهائن من حرفاء و موظّفين في قبو البنك لمدّة ستّة أيام . الغريب أنّه أثناء فترة الاحتجاز بدأ الرهائن يرتبطون عاطفيّا باللّصوص حيث عبّروا عن تعاطفهم معهم لدرجة دفعتهم بعد إطلاق سراحهم ، إلى الدفاع عن خاطفيهم و إبداء عدم استعدادهم لأدانتهم أثناء المحاكمة. متلازمة"ستوكهولم" تعبّر عن حالة التقمّص العاطفي التي يمكن أن تدفع الفرد إلى الارتباط العاطفي و التماهي مع المعتدي .هذه المتلازمة هي وسيلة و حيلة نفسيّة لاواعية يعتمدها الفرد للسيطرة على قلقه وتخفيف حدّة مخاوفه من خلال تحويلها إلى مشاعر تعاطف و وفاء هي في الأصل تعبّر عن رغبتهم في الاستسلام و الممانعة عن المقاومة و تجنّب الأذى .هذه المشاعر في الحقيقة هي تعبير عن استعداد الفرد /الأفراد/الشعوب للرضوخ و الاستسلام للمعتدي (لص، مجرم، مستعمر...) أو الطاغية في حالة النظام الاستبدادي.
المجتمع التونسي في وضعه الراهن يعيش متلازمة ستوكهولم فهو يعرف "سجّانه" مليّا و يدرك طريقته في سجنه و التحكّم فيه . سواء من خلال تأجيج مشاعر الحنين "للأب البورقيبي الغائب" أو استدرار رغبته في "الالتحاق " بـ"الأب المثالي السماوي" : الشهادة و الجنّة . كما كان الأمر في قبو البنك السويدي تم احتجاز التونسيين من طرف فردين فقط. و انقسم الرهائن إلى فرقتين تدافعان بشراسة عن "خاطفيهم و محتجزيهم" و مدافعين.
2.متلازمة " أليس في بلاد العجائب"
متلازمة أليس في بلاد العجائب أو متلازمة "تود" ، نسبة إلى الطبيب النفسي البريطاني " جون تود" هي حالة عصبيّة ناتجة عن خلل و اضطراب في الرؤية .حيث تبدو الأشياء بالنسبة للفرد/المريض مخالفة لما عليه في الحقيقة . في هذه المتلازمة الخلل ليس فيزيولوجيا أو عضويا للجهاز البصري في الدماغ بقدر ما هو خلل و عطب في عمليّة الرؤية.
حيث يمكن أن تختلف الأحجام و تتغيّر أبعاد الأشكال...فيمكن أن يرى الفرد مثلا أطراف جسده على غير طبيعتها كأن تتمدّد أو تقصر ساقيه أو يديه أو يتقلّص شكل الأشياء أو يتمطّط أحجام البشر و الحيوانات .
متلازمة أليس أو تود هي أعراض حسّية عصبية مشوّهة للمكان و الزمان و تحيل إلى صراع الفرد مع وعيه الجسدي-النفسي بذاته داخل محيطه و مجاله الاجتماعي الذي يراه "مشوّشا".
هكذا حال الشعب التونسي منذ ظهور وثائق بنما بيبرز حيث لم يعد يعرف كيف تشابكت الأيادي و أصبحت كما شبكة العنكبوت التي استهزأ بها سابقا لصغر حجمها هي المصيدة التي تمدّدت في غفلة منه . التونسي لم يعد يعرف من يملك "اليد الطولى" و من له "اليد النظيفة " و من صاحب اليد المرتجفة المرتعشة في انتظار ما تخفيه الوثائق... تعدّدت الأطراف و الأحجام و الأشكال فلم يعد يعرف ما معنى حكومة الظلّ من حكومة العلن ، من الحكومة العميقة من الحكومة داخل الحكومة او الدولة داخل الدولة ، من النداء الى نداءات ... الواقع أصبح مشوّشا و التونسي أضحى "أليس" جديدة في بلاد عجيبة ليست بلاده .
3.متلازمة "كوتار" Syndrome de Cotard
متلازمة كوتار ، نسبة الى الطبيب الفرنسي جول كوتار، هي حالة هذيان إنكار Le délire de négation .حيث ينكر المصاب وجوده و حياته و يرى نفسه ميّتا : الجثّة المتحرّكة . فالمصاب يعتقد أشدّ الاعتقاد بفقدانه لأعضائه الحيويّة الداخلية أو بفراغ جسده من الدماء .
تعتبر الحوادث الصادمة و الصدمات النفسيّة الحادة التي يمكن أن يتعرّض لها الفرد من بين الأسباب الرئيسية في إصابته بهذا الاضطراب النفسي-السلوكي .حيث تكون حالته النفسية في البداية متسّمة بنوع من اليأس و كره الذات لتتحوّل الى حالات اكتئاب مزمنة تغذيها عمليّات الإنكار و التوهّم الهلوسة و تزيد في حدّتها .
بذلك يحنو المصاب بنفسه في هذه الحالة نحو العزلة و الأوهام فيصبح الواقع كما العالم في نظرهم مشوّها لا يُحتمل وجب تغيره أو مغادرته.هي حيلة نفسيّة للانسحاب من الواقع من خلال اعتبار الذات "ميتة "لكنّها مازالت متحرّكة ربّما لتحقيق هدف مّا .
هذا هو لسان حال الشاب التونسي المجنّد الذاهب إلى سويا و ليبيا أو ربّما البقاء للجهاد في تونس . فحياته حسب مواريثه الدينيّة و أدبياته الاخوانية الجهاديّة ليست ملكه .هي حياة مرتهنة بالأساس إلى النصّ الديني من منطق "بل أحياء عند ربّهم يرزقون " آل عمران/169 و مسجونة في "من جرح جرحا في سبيل الله ... فانها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت ، لونها الزعفران و ريحها المسك" (عن معاذ ابن جيل رواه الترمذي و صحّحه)
متلازمة "كوتار" هي "الجثّة المتحرّكة" نحو جنازتها المتنقّلة رافعة بيديها المصحف و السيف و ترفض ان تكون "حيّة".
4.متلازمة "المحتال" Syndrome de l’imposteur
هي إحساس الفرد المحتال و اعتقاده بكون أعماله الناجحة و انجازاته هي صدفة و ضربة حظ و ليست نتيجة محهوداته أو قدراته أو تضحياته. فيشعر المصاب أنّه قد خدع الآخرين بشكل من الأشكال و أنّ المكانة أو المنصب أو النجاح الذي حققه كان لاحتياله و خداعه للآخرين.هذه المتلازمة هي تعبير نفسي عن انعدام الثقة بالنفس و غياب تقدير الذات. ربّما كان إحساس قديم بالدونيّة أو "نقد" متواصل أثناء طفولته ما يجعل الفرد يصاب بهذه المتلازمة . أو ربّما هي طريقة لاواعية لمنع الذات من الاستمتاع بنجاحاته هدفها التخفيف من مشاعر الذنب التي تكوّنت جرّاء هذا "النقد" و "الاتهامات" القديمة التي وجّهت للطفل .
هل كانت الثورة صنعا تونسيا خالصا أم أنّ هناك أيادي خفيّة صنعتها ؟
مازال التونسي يراوح في الاجابة عن هذا السؤال مرّة بـ"نعم" و مرّات كثيرة بـ"لا" .
ثمّ من أطلق عليها لقب "الياسمين" ؟
لا يذكر أحد كيف تمّ الأمر عدا ما بثّته الأخبار من هنا و هناك .
كيف تمّ خلع من تحكّم في البلاد مدّة 23 سنة في ظرف شهر تقريبا ؟
العمليّة لا تبدو منطقيّة الاّ اذا اعتبرنا أن هناك أياد تدخلّت في الأمر و سارعت في انتهاء و إتمام عمليّة "الخلع" و "الثورة"... فلا رواية "البسكولة " كانت صحيحة و لا "الصعفة" كذلك و لا "الشهيد" من أصحاب الشهائد العليا... هذه النقاط ، وغيرها من الأسئلة المبهمة ، تجعل من التونسي يدرك أنه ليس "صانع ثورته" مئة في المئة . و في مقابل يتمّ تصويره عالميّا على أنّه بطل "أسطوري" من قبيل " المعجزة" لدرجة دفعت شعوب العالم الى دعوته مواصلةا كتابة أسطر التاريخ :"Tunisiens , restez debout , le monde est fier de vous ! "
كلّ هذه الأسباب غذّت التونسي بأحاسيس عميقة بأنّه قد خدع ، ربّما دون قصد ، الجميع . فهو لم يكن "الفاعل" بل ربّما " المفعول به" في شكل "فأر تجارب" لتسويق "ثورات ربيع عربي" دمويّة قتلت الأبرياء أكثر ممّا حرّرتهم.
ربّما كان أحسّ التونسي في أعماقه بكونه البطل المحتال و المخادع لما يسمّى بـ"الفوضى الخلاّقة"... ربّما كان انتخابه للاخوان و الترويكا في مرحلة ما هو تعبير عن مشاعر الإحساس بالذنب من خلال العودة الى "الله" و ربّما أيضا صبره على قساوة ضربات الدواعش و تحمّله الام مصالحته لرموز "اللصوصيّة" في البلاد من قبيل معاقبة النفس ، على طريقة المسيح ، لتخفيف من الشعور بالذنب جرّاء ارتكابه "ثورة الدم المسفوك" باسم الديمقراطيّة و الدين...
5.متلازمة "مونخهاوزن" Syndrome Münchhausen
مونخهاوزن هو ضابط ألماني (1720-1797) اشتهر بقصصه المفتعلة و المبالغة في توصيف وعكاته الصحيّة حيث عرف باختلاقه للعديد من الإصابات و الإمراض لدرجة تدفعه إلى إيذاء نفسه من خلال خلق إصابات و كدمات و كسور بالغة .الهدف النفسي التي يسعى إليه الأشخاص المصابون بهذه الحالة هو لفت الانتباه إليهم و كسب تعاطف الآخرين. هذه الملازمة تحيل الى نقص "وجداني-حبّي "طفولي قديم لديهCarence affective يسعى من خلال افتعال أحداث معيّنة (أمراض ، إصابات...) إلى تعويضها من خلال استدرارا لمشاعر العطف و جذب انتباه الآخر.
بهذه الطريقة "السخيفة" أدارت الترويكا شأن البلاد في وقت ما .
حيث كانت الثورة المضادة في نظرهم ، هي السبب في عرقلة "المسار الثوري" و الانتقال الديمقراطي لتونس ما بعد الثورة و لم تكن محدوديّة مستواهم الفكري و الأخلاقي-السياسي هو السبب الرئيسي لفشلهم... الاغتيالات السياسيّة لم تكن بالنسبة إليهم مؤشرا يدفعهم إلى مراجعة ذواتهم بقدر ما كان فرصة لتشتيت انتباه الشعب نحو مواضيع أخرى واهية من قبيل أنّهم ضحيّة مؤامرة أو ما شابه غرضها تصفية حسابات و خصومات سياسية قديمة و ضيّقة .
التذكير الملحّ بما تعرّض له البعض منهم في السجون سابقا هي محاولة لاستدرار تعاطف التونسيين و مغالطتهم لدفعهم للتغاضي و الصبر أكثر ، حسب مصطلح أنور السادات ، عن "الغباء السياسي" الذي ميّزهم طوال و أثناء فترة حكمهم.
الملفت للنظر أنّ الترويكا بقدر ما لعبت دور الضحيّة المصابة و المتآمر عليها فإنها في نفس الوقت كانت تدّعي أنّها "الحكومة الأقوى في التاريخ" .
ربّما نستطيع أن نطلق تسمية جديدة تسمّى بمتلازمة "مونخهاوزن-الترويكا" تجمع بين التضاد المرضي لــ"أقوى مصاب في التاريخ"يستحقّ الشفقة و الاهتمام و ربّما العناية النفسيّة ... من منطق " وا نندبهم".
تهكّم الختام
هناك متلازمة أخرى تعرف بمتلازمة "الرأس المنفجرّ" Syndrome de la tête qui explose و هي الحالة التي يشعر فيها المصاب بانفجار /صوت انفجار قرب رأسه ساعة النوم ... ربّما كانت تفجيرات داعش .
في صورة احتداد هذه الحالة يمكن لها أن تدفع بعض المصابين إلى الدخول في حالة أخرى تحمل أعراض مايسمّى بـ " الاختطاف من قبل كائنات غريبة" ...ربّما كانت كائنات سلفيّة غريبة الشكل أخلاقيا و إنسانيا.
و ربّما أيضا ، نخصّص لهذه المتلازمة مقالا، لنوضّح فيه قوّة التونسي و قدرته على التحمّل و الصبر أمام الحماقات و الانفجارات والأكاذيب التي تحيط به من كلّ صوب و تمارس عليه طوال الوقت من كلّ حدب .
المراجع
شبكة العلوم النفسيّة العربيّة
عدنان حب الله
الصدمة النفسية ،أشكالها العيادية وأبعادها الوجودية .ترجمة :علي محمود مقلد .دار الفارابي ، الطبعة الأولى 2006 ، بيروت ،لبنان.
لطفي الشربيني
معجم مصطلحات الطبّ النفسي. مركز تعريب العلوم الصحّية، مؤسسة الكويت للتقدّم العلمي. سلسة المعاجم الطبّية المتخصّصة 2003.
Encyclopédie Médico-chirurgicale
Dépersonnalisation,Olivier Saladin et J-P Luauté (2003)
Christophe André
Estime et mésestime de soi (recherche en soins infirmiers ,2004)