أفضى مسح أثري للمعهد الوطني للتراث، بمنطقة عين قرشبة الأثرية شبه المجهولة، بعمادة الدخيلة من معتمدية طبربة بولاية منوبة، إلى اكتشافات أثرية جديدة ستحل الغموض الذي كان يكتنف هذا الكنز المغمور، ويميط اللثام عن حقائقه التاريخية وعن خصائصه العمرانية والفنية المطمورة.
ووفق تصريح منية عديلي، الباحثة بالمعهد الوطني للتراث والمختصة في المعالم المائية للفترة القديمة، والمسؤولة عن المواقع الأثرية بولاية منوبة، يشمل الاكتشاف أربع نقائش لاتينية كتبت على الحجارة الكلسية المستخرجة من الموقع، احداها فقط جنائزية أما الأخريات فتنتمي الى معالم عمومية.
وأوضحت الباحثة، أن أهم القطع حجما، والتي اكتشفت بحفرة عشوائية بالموقع، تتضمن نقوشا إهدائية على شرف أحد أباطرة العهد الروماني في القرن الثاني ميلادي. كما احتوى الموقع أيضا، على عناصر معمارية لا تقل أهمية علمية عن النقائش اللاتنية الأربع، بعضها روماني ويتمثل في تيجان وأعمدة و قواعد دعامات، وأخرى بونية تتجسد في حجارة تحمل رسومات زهرية وهندسية وعناصر معمارية ذات تقاليد بونية تواصل استعمالها في الفترة الرومانية.
وأضافت أن إحدى هذه العناصر البونية، تاج يحمل زخرفة تعود الى تلك الحقبة، ويرجح أنه ينتمي الى ضريح أو معلم ديني، مشيرة الى أن مثل تلك الزخارف وجدت أساسا في بناء الأضرحة البونية مثل ضريح « ماسينيسا » بدقة (ولاية باجة) و »قصر شنان » بجهة ماطر (ولاية بنزرت) و »هنشير الجال » بالانصارين (ولاية منوبة).
وأكدت أن أهمية الاكتشافات بالمنطقة، تكمن في أنها تقدم مؤشرات إضافية للمعطيات التاريخية القليلة التي توصّل اليها الباحثون سابقا حول الموقع، وتحدد الحقبات الزمنية والحضارات التي تعاقبت عليه.
واعتبرت أنه بالاستناد الى هذه القطع الاثرية والاحجار المتناثرة هنا وهناك على الهضبة، بات الحديث ممكنا، عن حقبات تاريخية وعن حضارات مختلفة مرت من هنا، من موقع عين قرشبة الأثري الضارب في عمق التاريخ.
كما أفادت بأن المسح كشف أيضا، عن شظايا معمارية وخزفية تعود الى الفترة الاسلامية، فضلا عن تاج عمود ودعامته، مذكّرة بأن الاكتشافات السابقة بالموقع تضمنت عناصر حجرية لرحى معاصر الزيتون ومنشآت مائية.
وأشارت الى أن الباحثة، ان الاكتشافات التي تؤكد تعاقب الحضارات على هذه المنطقة، منذ الحضارة ما قبل الرومانية فالرومانية ثم البيزنطية وصولا الى الإسلامية، قد تكون مدخلا لتاريخ هذا الموقع الاثري القديم الذي ظل لغزا محيّرا لعقود، في ظلّ غياب مصادر مكتوبة تؤرخ للمنطقة.
وصرحت بأن أهم ما يميز هذا الموقع، الذي يشكل ملتقى لتمازج حضاري وثقافي وتاريخي متفرد، عين الماء الرومانية العهد التي لم تنضب مياهها منذ آلاف السنين، وارتبطت بذاكرة وتاريخ المنطقة، وظلت المنبع الذي ينهل منه الأهالي وملاذهم للشرب والريّ، تنساب سواقيها الى الاراضي الفلاحية المجاورة.
وأضافت أن الموقع يتميز كذلك بالحصن البيزنطي الذي يعلو المنطقة الجبلية في « كدية الطويلة »، كموقع استراتيجي كان يستعمل لمراقبة السهول ومزارع وادي الطين.
ولاحظت أن موقع عين قرشبة رغم ما يكتسيه من أهمية أثرية، الا أنه يعتبر من المواقع التي لم تحظ باهتمام الباحثين، اذ اقتصر ذكره لدى بعض المؤرخين بوصف مختزل لموقعه والقليل من مكوناته الأثرية، وعلى تقديم فرضية « كروسيما » كاسم قديم له.
واعتبرت أن التعمق في دراسة الموقع، من شأنه أن يميط اللثام عن اكتشافات جديدة قد تساهم في كتابة تاريخ المنطقة، وتدعم المدونة التاريخية بالجهة الزاخرة بالمواقع الاثرية والمعالم الضاربة في القدم، والتي لايزال خطر الحفر العشوائي التخريبي يهدد مكوناتها وينذر بطمس الحقائق واندثارها.
كما عبرت الباحثة، من جهة أخرى، عن مخاوفها من مشاهد العبث بالموقع التي عاينتها صحفية (وات) بمنوبة، ومن انتشار الحفر العشوائية هنا وهناك، في تعد صارخ من اللاهثين وراء وهم الكنوز على مكونات الموقع الذي يتسللون اليه تحت جنح الظلام، فتهشم مطارقهم ومعاولهم وفؤوسهم الحجارة المتناثرة بالموقع، والتي يحمل بعضها نقوشا ورسوما هندسية، وهو ما يتطلب حماية الموقع ومنع الغرباء من الوصول اليه.
وشددت الباحثة في هذا الصدد، على ضرورة التنسيق مع السلطات المحلية بالمنطقة، لتعيين حراسة نهارية وليلية للموقع، بالتعاون مع المتساكنين الذين يعتبرون حاليا العين الحارسة له، مؤكدة انه تم تأمين القطع الاثرية المستخرجة بمقر الكيسة الاثرية بطبربة، والتي أضحت فضاء لتجميع القطع المكتشفة بالجهة، وآخرها مجسم الفسيفساء ببرج العامري.