في العقود الأخيرة، برزت منطقة جنوب شرق آسيا كواحدة من أكثر المناطق حيوية في العالم، فهي تضم العديد من البلدان التي تتميز بمعدلات نمو استثنائية. وتشمل مجموعة الدول هذه إندونيسيا، رابع أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، إذ يبلغ عدد سكانها 286 مليون نسمة، أي أقل فقط من ثلاث دول رئيسية مساهمة في نمو الاقتصاد العالمي، وهي الصين والهند والولايات المتحدة.
خلال الفترة 2000-2024، نما الاقتصاد الإندونيسي بمتوسط معدل نمو قدره 5%. واستمر هذا الأداء اللافت خلال فترات مليئة بالتحديات، بما في ذلك السنوات التي اتسمت بتقلبات كبيرة إبان الأزمة المالية العالمية وجائحة كوفيد-19. وقد تجاوزت إندونيسيا تلك العقبات باستقرار ملحوظ، حيث تراجع نموها الاقتصادي إلى أقل من 4% خلال ثلاث سنوات فقط.

يسعى الرئيس برابوو سوبيانتو، الذي بدأت فترة ولايته لخمس سنوات اعتباراً من أكتوبر 2024، إلى رفع معدل النمو الاقتصادي إلى 8%، وهو مستوى لم تشهده إندونيسيا منذ ما يقرب من ثلاثة عقود. لكن البلاد تواجه حالياً مجموعة من التحديات التي ستختبر قدرتها على تحقيق مثل هذه الأهداف الطموحة. وتهدد التوترات الجيوسياسية المتزايدة وتصاعد حروب التعريفات الجمركية بين الاقتصادات الكبرى بتعطيل التجارة العالمية والتدفقات الرأسمالية، مما يخلق حالة من عدم اليقين بالنسبة للقطاعات التي تعتمد على التصدير في إندونيسيا. بالإضافة إلى ذلك، يشكل انخفاض أسعار السلع الأساسية والأوضاع المالية التي لا تزال مشددة في الاقتصادات المتقدمة مخاطر على الاستثمار في الاقتصادات الناشئة، ويمكن لتلك المخاطر أن تستمر في زيادة تقلبات عملات هذه الاقتصادات، بما في ذلك الروبية الإندونيسية.
في هذه المقالة، نناقش العوامل الرئيسية التي ستحدد توقعات النمو الاقتصادي في إندونيسيا لهذا العام.
أولاً، سيظل الاستهلاك من العوامل الرئيسية الداعمة للنشاط الاقتصادي. يمثل الاستهلاك 55% من الاقتصاد الإندونيسي، وبالتالي فهو عامل رئيسي في معدلات نموه. ويعتبر الاستهلاك مدعوماً بمرونة سوق العمل، التي أظهرت انتعاشاً ملحوظاً منذ جائحة كوفيد. وانخفض معدل البطالة من ذروته البالغة 7.1% في عام 2020، إلى 4.9% وفقاً لأحدث بيانات لعام 2024، وهو أدنى مستوى له منذ عام 1998.
ولتعزيز الاستهلاك بشكل أكبر، تطرح إدارة الرئيس برابوو سلسلة من التدابير الاقتصادية، بما في ذلك زيادة أكبر من المتوقع في الحد الأدنى للأجور بواقع 6.5%، كما قلصت زيادة ضريبة القيمة المضافة التي كان من المقرر تطبيقها هذا العام. وتشمل إجراءات التحفيز الإضافية خصومات على فواتير الكهرباء، وتخفيضات في ضريبة الدخل لعمال المصانع، وإطلاق برنامج ضخم للوجبات المجانية للأطفال يهدف إلى تغطية 83 مليون مستفيد، ويمكن أن تصل قيمة هذه التدابير قريباً إلى 28 مليار دولار من الإنفاق السنوي. وستوفر مرونة أسواق العمل، إلى جانب السياسات الحكومية التحفيزية، دعماً كافياً للاستهلاك هذا العام.
ثانياً، لدى إندونيسيا حزمة قوية من مشاريع البنية التحتية الكبرى ومشاريع الإنفاق الرأسمالي التي من شأنها أن تعزز النمو الاقتصادي. وتشكل مجموعة مبادرات البنية التحتية، التي تبلغ قيمتها مئات المليارات من الدولارات الأميركية، إحدى أولويات الإدارة الجديدة. ومن المتوقع تنفيذ مشاريع كبرى في قطاعات مثل النقل (الطرق والجسور والسكك الحديدية والمطارات والموانئ) والخدمات اللوجستية والتعدين والمرافق اللازمة لوحدات التصنيع الجديدة. ومن بين المحركات الرئيسية للإنفاق الإضافي على البنية التحتية خطة نقل العاصمة من جاكرتا إلى جزيرة بورنيو، والتي تمثل استثمارات بقيمة 33 مليار دولار أميركي.
كما سيتم استغلال تدابير الإقراض لتحفيز الاستثمار، في سياق يتوسع فيه الائتمان بالفعل بوتيرة تقترب من 10% سنوياً. وسوف يزيد بنك إندونيسيا من حوافز السيولة إلى 80 تريليون روبية إندونيسية (ما يقرب من 5 مليار دولار أميركي) للبنوك التي تقرض قطاع الإسكان، كجزء من برنامج لبناء 3 ملايين منزل سنوياً.
ويُعَد الإسكان قطاعاً رئيسياً لدعم النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل نظراً لارتباطه بسلسلة التوريد. كما تجتذب آفاق النمو في البلاد الاستثمارات الأجنبية، ومن المتوقع أن يصل الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025. وستعمل الاستثمارات العامة وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر على الحفاظ على مستوى صحي من الاستثمار، والذي سيظل أعلى من 30% من الناتج المحلي الإجمالي ويساهم في قوة وتيرة النمو الاقتصادي.
ثالثاً، ستستمر الصادرات في تقديم دعم إضافي للنمو الاقتصادي، حيث تظل البلاد محمية إلى حد كبير من التأثير المباشر لحروب الرسوم الجمركية المتصاعدة. نمت الصادرات بنسبة 6.5% على أساس سنوي في عام 2024، مما ساهم بنحو 1.5 نقطة مئوية في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، ومن المتوقع أن تحافظ على أداء قوي هذا العام. تعد إندونيسيا مورداً مهماً للمعادن، مثل النيكل والنحاس، التي تعتبر ضرورية لدفع التحول العالمي في مجال الطاقة من الوقود الأحفوري، ومن المتوقع أن تستفيد من الطلب المتزايد على هذه المنتجات.
في سياق تزايد التوترات الجيوسياسية وتصاعد الرسوم الجمركية، خاصة بين الولايات المتحدة والصين، يمكن أن تستفيد إندونيسيا من سهولة وصول سلعها إلى السوق، فهي تنافس عادة المنتجات الصينية في الولايات المتحدة، مثل المنسوجات والملابس، والإلكترونيات والمعدات الكهربائية. وفي الأمد المتوسط، من شأن النزاعات التجارية بين الولايات المتحدة والصين أن تشجع على نقل الأعمال والاستثمارات إلى دول أخرى في جنوب شرق آسيا، بما في ذلك إندونيسيا، مما سيعطي دفعة إضافية للاقتصاد الإندونيسي.
بشكل عام، نتوقع أن ينمو الاقتصاد الإندونيسي بنسبة 5.3% هذا العام، أي أعلى بقليل من إجماع التوقعات، وذلك على خلفية الاستهلاك القوي، والخطط الجيدة لمشاريع البنية التحتية ومشاريع الإنفاق الرأسمالي، والتوقعات التجارية المواتية.
فريق QNB الاقتصادي
عائشة خالد آل ثاني
مسؤول أول – قسم الاقتصاد
بيرنابي لوبيز مارتن*
مدير أول – قسم الاقتصاد
لويز بينتو
نائب رئيس مساعد – قسم الاقتصاد