من المعروف أن الاقتصاد الأميركي يشكل أهمية بالغة لتحقيق الازدهار طويل الأمد داخل الولايات المتحدة ولضمان الاستقرار العام على المستوى العالمي، حيث تستفيد بقية اقتصادات العالم، بشكل مباشر أو غير مباشر، من البنية الأساسية الواسعة للسوق الأميركية، ونظامها المالي العميق، وأطرها التنظيمية القوية. ومع ناتج محلي إجمالي اسمي متوقع قدره 28.8 تريليون دولار أمريكي في عام 2024، مقابل 109.5 تريليون دولار أمريكي للاقتصاد العالمي، فإن الولايات المتحدة تعمل على نطاق لا تضاهيه أي من القوى الاقتصادية الأخرى.
ولذلك، يجب فهم تداعيات الانتخابات الأميركية على الاقتصاد العالمي، خاصة لأن كلا المرشحين الرئيسيين (دونالد جيه ترامب وكامالا هاريس) يتبنى أجندات اقتصادية مختلفة.
نتعمق هذا الأسبوع في البرنامج الاقتصادي للمرشحة كامالا هاريس، النائبة الحالية للرئيس الأمريكي التي تسعى لأن تصبح الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة وأول امرأة تشغل هذا المنصب على الإطلاق.
تشغل هاريس حالياً منصب النائب التاسع والأربعين لرئيس الولايات المتحدة، وقد شغلت هذا المنصب منذ عام 2021 في عهد الرئيس جو بايدن. وهذا يجعل هاريس مرشحة لخلافة الرئيس الحالي، مما يشير إلى أن أجندتها تتمحور حول "الاستمرار" في تنفيذ السياسات الاقتصادية الحالية المعروفة للمستثمرين والمحللين، مع برنامج يركز على العدالة الاجتماعية، والمساواة، والاستدامة، والقطاعات المستقبلية، وذلك بهدف تعزيز وتعميق وتحديث المنصة التقليدية للحزب الديمقراطي. وبعبارة أخرى، تدعم هاريس فرض إجراءات تنظيمية أكثر صرامة على الشركات، وتقديم المزيد من الإعانات الاجتماعية للعمال والطبقة الوسطى، وزيادة الضرائب على الشركات والأسر ذات الدخل المرتفع، وتبني سياسة أكثر انفتاحاً تجاه المهاجرين، واتباع نهج تقليدي أكثر فيما يتعلق بالتجارة الخارجية.
ومن وجهة نظرنا، ينبغي تسليط الضوء على ثلاث نقاط رئيسية في أجندة هاريس الاقتصادية.
أولاً، في حال انتخابها، تميل هاريس إلى انتهاج سياسة مالية تقدمية بدرجة أكبر، بمعنى سياسة تدعم إعادة توزيع الدخل والثروات، وفرض المزيد من الضرائب على الأسر ذات الدخل المرتفع مع إنفاق المزيد على الأسر ذات الدخل المنخفض. في الواقع، يقترح الديمقراطيون رفع الضرائب على دخل الشركات إلى 28% من 21%، وهو مستوى متوسط بين المعدل الحالي والمعدلات الأعلى التي كانت سائدة قبل تخفيضات ترامب الضريبية في عام 2017. وهذا تناقض صارخ مع اقتراح ترامب بتخفيض ضريبة دخل الشركات إلى 15%. علاوة على ذلك، من المتوقع أيضاً أن تتم زيادة ضريبة الدخل الفردي على أولئك الذين يجنون أكثر من 400 ألف دولار أمريكي سنوياً في حال تم انتخاب هاريس، حيث يبدو أن الديمقراطيين غير راغبين في تمديد الإعفاءات الضريبية المؤقتة التي تم إقرارها في عام 2017 لهذه الفئة من السكان. ولكن هذا لا يعني أن رئاسة هاريس سوف تؤدي إلى تشديد مالي، حيث يتضمن جزء من أجندتها أيضاً نفقات إضافية على الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي والبنية التحتية وتحقيق التحوّل في مجال الطاقة وتقديم الدعم للقطاعات الاستراتيجية. ومن الممكن أن تساهم هذه التدابير المالية مجتمعة في زيادة العجز المالي، الذي يبلغ حالياً 6.7% من الناتج المحلي الإجمالي الممكن. ومن المرجح أن يكون التأثير الإجمالي لهذه التدابير على النمو إيجابياً، حتى إذا أدى الإصدار المحتمل لمزيد من سندات الدين الحكومية إلى ارتفاع العائدات طويلة الأجل.
ثانياً، يبدو أن هاريس ملتزمة بتبني نهج أكثر صرامة فيما يتعلق بالإجراءات التنظيمية، مما يزيد من تشديد الأوضاع في مختلف القطاعات. وستكون التشريعات البيئية من الأولويات، مع سياسات مناخية شاملة تهدف إلى الحد من الانبعاثات من خلال معايير أكثر صرامة للصناعات والمركبات. ومن المرجح أن تقوم هاريس بتيسير عملية إصدار التراخيص لمشاريع الطاقة الخضراء مع فرض لوائح أكثر صرامة على صناعات الوقود الأحفوري. كما سيتم إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار بشكل أكثر صرامة، وقد يشمل ذلك اتخاذ تدابير لتفكيك الشركات الكبيرة ومنع السلوكيات المناهضة للمنافسة. ونتيجة لذلك، ستستفيد بعض القطاعات المستهدفة، مثل الطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية، من هذه التدابير، في حين من المرجح أن يشكل تأثيرها الإجمالي عبئاً إضافياً على القدرة التنافسية.
ثالثاً، قد يكون لموقف هاريس تجاه الهجرة أيضاً تأثير كبير على التركيبة السكانية وأسواق العمل في البلاد. لقد دعمت هاريس باستمرار إصلاح قوانين الهجرة من خلال الموازنة بين تأمين الحدود والمعاملة الإنسانية للمهاجرين وتوفير سبل لتجنيس المهاجرين غير الشرعيين الذين عاشوا في البلاد لفترة طويلة. وهذا أمر مهم، لأن المهاجرين غير الشرعيين يشكلون حوالي 4-5% من سكان الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، تعتبر هذه الفئة مهمة لتوفير العمالة لقطاع الخدمات وعقود العمل بنظام الساعة، مما يحول دون حدوث ضيق حاد في سوق العمل ويعوض عن الاتجاهات الديموغرافية. في المدى المتوسط، سيساهم هذا الأمر في تحقيق نمو معتدل في متوسط الأجور والتضخم. وسيكون للتركيبة الديموغرافية المواتية تأثير إيجابي على النمو الاقتصادي.
بشكل عام، إذا فازت هاريس بالرئاسة، فإن ذلك من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف إلى استمرار الأجندة الاقتصادية الأمريكية الحالية، لا سيما في مجالات المالية والإجراءات التنظيمية والهجرة. وفي المجمل، سيكون لأجندتها المقترحة تأثيرات متباينة على النمو، حيث ستعمل السياسات المالية والسياسات المرتبطة بالهجرة على تعزيز النشاط الاقتصادي، في حين قد تؤثر القيود التنظيمية فريقالأكثر صرامة على نمو الناتج المحلي الإجمالي.
فريق QNB الاقتصادي
لويز بينتو*
نائب رئيس مساعد – قسم الاقتصاد
بيرنابي لوبيز مارتن
مدير أول – قسم الاقتصاد