تنويه: نشر الدكتور عبد اللطيف الحناشي في جريدة " الصباح" اليوم ،الأحد 9 أفريل 2017، نصّا حول أحداث 9 أفريل ، يعيد " آخر خبر أونلاين " نشره بإذن منه:
تميزت حقبة الثلاثينات بتونس بتردي الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية تحت وقع الأزمة الإقتصادية والمالية العالمية والأزمة الإقتصادية التقليدية التونسية.كما تميزت حقبة الثلاثينيات بتوتر شديد للعلاقات الدولية بين الديمقراطيات والفاشية والنازية الصاعدة....أما في فرنسا فقد تمكنت القوى اليسارية والنقابية في تكوين الجبهة الشعبية التي تمكنت من الوصول إلى سنة 1936 ما ساهم في تحوّل نسبي في سياسة فرنسا تجاه المستعمرات..ففي الإيالة التونسية (المحمية) تم تغيير المقيم العام بآخر جديد هو "أرمان قيون" وذلك في 21 مارس 1936 الذي إتخذ عدة إجراءات تهدف إلى إحلال الإنفراج من ذلك:
- وقف إجراءات الإبعاد و السماح بعودة المبعدين من برج لوبوف إلى مناطقهم الأصلية
- إقرار حرية الصحافة والإجتماع وإرجاع الموظفين إلى سالف نشاطهم
- السماح للأحزاب بإعادة نشاطها الطبيعي ...
كما تم إستقبال الحبيب بورقيبة في مقر وزارة الخارجية الفرنسية من قبل "بيار فينو" نائب كاتب الدولة للشؤون الخارجية يوم 28/8/1936 ما ساعد الحزب الحر الدستوري - الديوان السياسي – لتعديل مواقفه وإبداء حسن نيّته تجاه إدارة الحماية و في هذا الإطار أخذ يعمل على جهتين :
* الأولى : تمتين العلاقة مع إدارة الحماية ووزارة الخارجية سعيا لتحقيق بعض مطالبه.
* الثانية : تكثيف دعايته وإستثمار رصيده النضالي لتدعيم وجوده التنظيمي في العاصمة وداخل البلاد وبالفعل عرف الحزب تمددا جغرافيا في أغلب مناطق البلاد وخاصة في مناطق الشمال الغربي والمناطق المنجمية ومناطق اقصى الجنوب و إرتفاع عدد المنتسبين إليه : حوالي 400 ألف منخرط و 400 شعبة سنة 1937 بالإضافة إلى بعث الجامعات كما عرف تمددا إجتماعيا بإنخراط فئات وشرائح إجتماعية مختلفة
غير أن حدثين هامّين سيفرضان عليه تغيير تكتيكه السياسي المعلن وتبني أسلوب نضالي جديد وهما :
يتمثل الأول في تحوّل السلوك السياسي لإدارة الحماية .فبعيد مغادرة كاتب الدولة المساعد لوزير الخارجية المكلف بشؤون تونس والمغرب الأقصى "بيار فينو" تونس بإتجاه باريس أخذت إدارة الحماية بتونس وبضغط من "المتفوقين" (رجال المال والأعمال والإدارة من الفرنسيين) تمارس الشدة والقمع تجاه الوطنين من ذلك قمع التحركات العمالية بالمتلوي بكل قسوة ما أدى إلى سقوط العديد من الضحايا وتزايد هذا السلوك حدّة بعد سقوط حكومة ليون بلوم (1872- 1950 عضو الحزب الإشتراكي الفرنسي سنة 1902، ترأس حكومة الجبهة الشعبية بين 1936 وإستقال في 13 جوان 1937 أبعد سنة 1942) إذ لم تتردد الجندرمة الفرنسية في إطلاق النار على عمّال منجم المظيلة المضربين بالجنوب الغربي وذلك يوم 18 أوت 1937، كما قامت إدارة الحماية بتضييق الحريات العامة من ذلك منع المظاهرات والاجتماعات السياسية والعمالية.
أما الثاني فيتمثل في عودة الشيخ عبد العزيز الثعالبي إلى البلاد أواسط جويلية 1937، بعد إبعاد إضطراري دام حوالي أربعة عشر سنة. فبعد محاولة الديوان السياسي الفاشلة لكسب الشيخ لصفه دخل الطرفان في معركة ضارية ساعدت بشكل أو آخر على دفع الديوان السياسي لإتخاذ مواقف جذرية لدرء الإتهامات الموجهة إليه....
وقد عبرت مداولات المؤتمر الثاني للحزب الدستوري - الديوان السياسي –( 30 أكتوبر إلى 2 نوفمبر 1937 ) ولائحته السياسية عن هذا المنحى حيث أعلنت عن خيبة الحزب في حكومة الجبهة الشعبية وإلتزامها بالبرنامج العام الذي أقره مؤتمر 1933، وأقر المؤتمر خطتين هما:
- "تقوية نشر الدعاية مباشرة في الأوساط التونسية بجميع الوسائل الملائمة .. ومواصلة الحوار الفرنسي لتبديد سحب سوء الظن..
- الإعلان عن إضراب تضامني لكامل يوم 20 نوفمبر 1937 وذلك مع الحركات الوطنية في كل من المغرب والجزائر رغم رفض رئيس الحزب الدكتور محمود الماطري ذلك، وقد عبّر هذا الموقف عن تحول جذري لممارسة الحزب النضالية خاصة بعد تنفيذ الإضراب، برغم معارضة الإقامة العامة لذلك فيما أدت مظاهرة الإحتجاج التي إندلعت ببنزرت يوم 8 جانفي 1938 بسبب إبعاد المسؤول النقابي والدستوري حسن النوري إلى تأزم الموقف خاصة بعد سقوط ستة (06) شهداء وجرح نحو عشرين (20) آخرين من المتظاهرين.
و مثّل إنعقاد المجلس الملي للحزب الدستوري بالديوان السياسي أيام 13 و14 مارس 1938 نقلة نوعية في خطاب الحزب خلال مرحلة ما بعد الإبعاد حيث طالبت لائحته السياسية بـ:
- إستمرار الكفاح وتنظيم الجماهير وإعدادها للمقاومة
- تكثيف أعضاء الديوان السياسي للحزب من نشاطهم عبر مختلف جهات البلاد محرضين السكان على الامتناع عن دفع الضرائب ومقاطعة السلع الأجنبية والامتناع عن أداء الخدمة العسكرية
- إتخاذ علاقة الحزب الدستوري بالإقامة العامة صبغة التحدي خاصة بعد تهديد هذه الأخيرة لعلي بلهوان، من إلقاء محاضرة حول "دور الشباب في المعركة" ورغم هذا التهديد ألقى البلهوان محاضرته فأصدرت الجهات المعنية أمرا بفصله عن العمل وهو ما أدى إلى إعلان الطلبة عن إضراب عام تضامني وذلك يوم 25 مارس 1938 مما أدى بالسلطات إلى إغلاق المعهد وإبعاد نحو عشرة(10) طلبة إلى جهاتهم الأصلية ووضعهم تحت نظام الإقامة المراقبة وتحجير الإقامة عليهم في بقية المراقبات المدنية بالبلاد بتهمة التحريض على الإضراب والمشاركة في نشاط دستوري، كما وضعت(05) طلبة في الوقت الذي القت إلقاء الجندرمة القبض القبض على بعض الأعضاء
من الديوان السياسي( بين 4 و6 أفريل) ومنهم الهادي نويرة ود. سليمان بن سليمان وصالح بن يوسف ومحمود بورقيبة وزجّت بهم في السجن.
أما ردّ الحزب إزاء هذا الإجراء فكان الدعوة للتنظيم مظاهرتين :
* الأولى : إنطلقت في حمام الأنف يوم 7 أفريل 1938 وانتهت بتقديم المنجي سليم عريضة للباي تعبيرا عن إحتجاج المتظاهرين عن إعتقال أعضاء الديوان السياسي للحزب وسجنهم.
* الثانية : خرجت يوم 8 أفريل 1938 للإحتجاج أمام مقر الإقامة العامة على الإجراءات القمعية التي إتخذتها ضد الدستورين وذلك بقيادة محمود الماطري([1]) والمنجي سليم وعلي بلهوان وقد رفع المتظاهرون شعارات مختلفة
وبالتوازي مع ذلك قرر الديوان السياسي القيام بمظاهرة أخرى يوم 10 أفريل إحتجاجا على إهمال الحكومة النظر في المطالب التي كان قد رفعها الحزب إليها وعدم إطلاق سراح المعتقلين والمسجونين
الحدث:
كانت الجماهير في حالة توتّر قصوى يوم 9 أفريل وهي ينتظر خروج عضوي الديوان السياسي الطاهر صفر وعلي درغوث من مكتب الوزير الأكبر ولما بلغها خبر إستدعاء علي بلهوان للمثول أمام السلطات القضائية تحولت بإتجاه قصر العدالة والتحقت بها جموع أخرى من السكان من الأحياء المجاورة (الملاسين – رأس الطابية ...)حتى بلغ عدد الحاضرين ،حسب بعض التقديرات، بين 1000 و1500 شخص فتدخلت قوات الشرطة والجيش وأطلقت النار على بعض الأفراد الذين حاولوا اقتحام قصر العدالة بهدف متابعة الأحداث من الداخل وقد أدى ذلك إلى سقوط بين (20)إلى (22) تونسيا وجرح نحو مائة وخمسين(150) آخرين. كما قد يكون عدد الشهداء والجرحى أكثر من ذلك .فبعض العائلات لا تعلن عن استشهاد أبناءها او عن إصاباتهم حتى لا تكون تلاحقهم لعنة السلطات الاستعمارية الفرنسية،و كان جل هؤلاء من الشباب الذين كانوا يعانون من البطالة وخصوصا من النازحين القاطنين بالأحياء القصديرية بالإضافة إلى تلاميذ المعهد الزيتوني
كما أعلنت إدارة الحماية عن حالة الحصار و حلّ الحزب الحر الدستوري -الديوان السياسي- وغلق مكاتبه ومصادرة وثائقه....و القيام إيقاف واعتقال عشوائية تجاه السكان بتهم واهية وملفّقة في الغالب(بورقيبة كان مريضا ونزيل الفراش)، وخاصة تجاه الوطنين مئات من الوطنيين الذي مثلوا امام محاكم فرنسية وأنزلت ضدهم عقوبات قاسية بالسجن خارج تونس (السجون الفرنسية بالجزائر وسانت نيكولا في فرنسا) وداخلها إضافة إلى عقوبات تكميلية(المراقبة و الخطايا المالية و مصادرة الأملاك)...
ظل هذا الحدث ملتبسا وإشكاليا لذلك تعددت التأويلات والتفسيرات .فتجمهر الناس كان تلقائيا وعفويا باعتبار ان الحزب الحر الدستوري التونسي الديوان السياسي لم يدعوا للتجمع وان ما حدث كان بفعل أطراف كانت ترغب في إنهاك الحزب وإضعافه في حين يرى البعض الآخر ان طرفا في الحزب(الجناح الراديكالي)كان سببا في ذلك لتصعيد الموقف... و كان ينتظر ذلك على خلفية ما حدث في المغرب والجزائر سنة 1937 بل كان يدفع إلى ذلك .ولكن ان كان الأمر كذلك لماذا لم تقع المواجهة يوم 8 افريل أثناء المظاهرة التي نظمها الحزب؟([2])
وإذا كان الحزب ينتظر المواجهة ألم يكن من المفروض ان يتفاداها حتى لا يسقط هذا العدد الكبير من الضحايا؟ثم والاهم ألم يكن الحزب يتوقّع تلك الإجراءات التي تلت الأحداث والتي تمثلت في اعتقال كل الزعماء وإيداعهم سجن سان نيكولا بفرنسا او السجون الفرنسية بالجزائر خاصة وان فرنسا تعيش على صفيح حار بفعل حدة التجاذبات السياسية المحلية وحدة الصراع بين القوى الديمقراطية والفاشية ولن تتسامح مع أي تحرك في تونس التي تعرف تواجدا ضخما للجالية الايطالية (أكثر من 90 ألف ايطالي) جزء هام منهم يحملون الفكر الفاشي ؟ لذلك لا يتردد البعض في القول ان من مصلحة القوى الفاشية الفاشية الايطالية توتير العلاقة بين الوطنيين التونسيين والإدارة الفرنسية لإضعاف الجانبين ما يسهل على ايطاليا تحقيق أهدافها الإستراتيجية.ومهما كان الامر نرى ان الاحتقان الذي كان سائدا بين ادارة الحماية من جهة والحركة الوطنية من جهة اخرى تجسد خاصة في قرارات الحزب و في خطاب عليّ البلهوان يوم 8 افريل 1938 الذي تميز بالتعبئة و بالحدة وبالتحريض المباشر ضد ادارة الحماية.كما ان توتر الوضع السياسي في المغرب والجزائر نتيجة السلوك القمعي لفرنسا تجاه الحركات الوطنية بالاضافة لتوتر العلاقات الدولية وانعكاس ذلك على الاوضاع في تونس بحكم تواجد العدد الضخم للجالية الايطالية والتيار الفاشي والنازي الفرنسي بتونس عوامل قد تساعد على تفسير الأسباب التي أدت لتلك المواجهة العنيفة وتداعياتها المختلفة على الحركة الوطنية بين 1938-1945 وقدرة الشعب التونسي بمختلف نخبه على امتصاص الازمات والضربات ليصنع الانتصارات..رحم الله شهداء تونس جميعا وكل ما ساهم في تحرير الوطن وبناء الدولة الوطنية من أي موقع كان وبأي وسيلة .
---------------
الهوامش
([1]) كان محمود الماطري قد قدم استقالته من الحزب بعد اعتراضه على إضراب 20/11/1938 الذي أقره الحزب في غيابه وتعلل الماطري بالمرض لتبرير الاستقالة وذلك حتى لا يحرج أعضاء الديوان السياسي
[2] - يقول المرحوم عليّ المعاوية انه بعد انتهاء مظاهرة أو تجمع 8 افريل "كان الزعيمان سليم و البلهوان مع بورقيبة في غرفته،فاستقبلهما بألفاظ في منتهى الحدة وهو في اشد فورة الغضب يتحسّر على هاته الفرصة الذهبية التي ضاعت على الحزب الذي قضّى حينا من الدهر وهو يعدّ فيها الشعب لتسديد لكمته الموجعة الى صميم الصلف الاستعماري حين تسنح،بسقوط الضحايا وإراقة الدماء ويكون العالم كله عليه شهيدا.."
المعاوي (عليّ):ذكريات وخواطر،منشورات المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية،سلسلة مذكرات،منوبة 2007،ص50
حضر هذا اللقاء بالإضافة للأسماء المذكورة 5 مناضلين آخرين يذكرهم المعاوي بالاسم.