كثيراً ما يقال إنّ الانتخابات الأمريكية ليست مسالة تهم الأوساط الداخلية الأمريكية فحسب، بل يتردد صداها في جميع أنحاء العالم نظراً لقوة الولايات المتحدة الأمريكية وثروتها ونفوذها. فبناتج محلي إجمالي اسمي يبلغ 28.8 تريليون دولار أمريكي، وهو ما يفوق بكثير أي اقتصاد رئيسي آخر، وصافي ثروات أسر يزيد عن 150 تريليون دولار أمريكي، تعتبر الولايات المتحدة في صميم التحركات العالمية للمعلومات ورؤوس الأموال والسلع والخدمات. ولا توجد أي دولة أخرى تلعب دوراً مماثلاً في تحديد اتجاه الاقتصاد العالمي.
ولذلك، يجب فهم تداعيات الانتخابات الأميركية على الاقتصاد العالمي، خاصة لأن كلا المرشحين الرئيسيين (دونالد جيه ترامب وكامالا هاريس) يتبنى أجندات اقتصادية مختلفة.
سنتعمق في هذا الأسبوع في البرنامج الاقتصادي للمرشح دونالد ترامب، الرئيس السابق الذي يحاول العودة إلى البيت الأبيض ليصبح الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة.
بعد أن شغل منصب الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة في الفترة 2017-2021، أصبحت أجندة ترامب معروفة جيداً للمستثمرين والمحللين، وتلخص شعارات مثل "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" و"أمريكا أولاً" الروح العامة لبرنامجه. ومن الناحية الاقتصادية العملية، فإن هذا يتمثل في سياسة داعمة للأعمال، ورؤوس الأموال، والتجارة، والتصنيع المحلي. بعبارة أخرى، يدعم ترامب إلغاء القيود التنظيمية والحد من الإجراءات البيروقراطية في القطاعات الرئيسية، وخفض الضرائب على الشركات والأسر، وزيادة الاستثمارات العامة، وإعانات دعم التصنيع المحلي، والدفاع، واعتماد نهج يتسم بالحمائية تجاه التجارة الخارجية.
تختلف بعض الإجراءات التي يدعمها ترامب جوهرياً عن السياسات التي يجري تنفيذها حالياً. ومن وجهة نظرنا، ينبغي تسليط الضوء على ثلاث نقاط رئيسية فيما يتعلق بأجندة ترامب الاقتصادية.
أولاً، في حال انتخابه، فإن ترامب يميل إلى أن يكون جريئاً فيما يتعلق بالتحفيز المالي. في الواقع، خلال فترة رئاسته، أدت التخفيضات الضريبية وزيادة الإنفاق إلى ارتفاع العجز الحكومي من مستوى دون المتوسط يبلغ 3.6% من الناتج المحلي الإجمالي الممكن إلى 6% في عام 2019، قبل أن تفرض الجائحة عجزاً أوسع نطاقاً. ويقترح ترامب حالياً خفض الضرائب على الشركات من 21% إلى 15%. كما تجدر الإشارة إلى أنه في حال فوز ترامب بالرئاسة، فإنه من المرجح أن يتم تمديد تخفيضات ضريبة الدخل الفردي التي كان قد وافق عليها في عام 2017، والتي من المقرر أن تنتهي في نهاية عام 2025. ومن المتوقع أن تكلف هذه الإجراءات المالية مجتمعة ما بين 3 تريليون إلى 4 تريليون دولار أمريكي من الإيرادات، مما يزيد من اتساع العجز الحالي الكبير. لكن هذا الأمر من شأنه أن يوفر دفعة للاقتصاد، ويحفز الاستثمارات والاستهلاك. ومن المفترض أن يدعم أيضاً عوائد سندات الخزانة الأمريكية طويلة الأجل وتطبيع منحنى العائد، حيث يمكن للعجز الأوسع والمستويات الأعلى من الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي أن تخيف بعض المستثمرين في أدوات الدخل الثابت وتتطلب علاوات أعلى للمدة.
ثانياً، يبدو أن ترامب ملتزم بإعادة إطلاق أجندته الحمائية، فهو يدافع عن فرض رسوم جمركية أعلى لا تقل عن 10% على الواردات من بقية دول العالم و60% على الصين على وجه الخصوص. وإذا تم تنفيذ مثل هذه التدابير بالكامل من قبل إدارة ترامب في حال انتخابه، ولم يتم استخدامها فقط كوسيلة ضغط في مفاوضات التجارة والاستثمار، من المرجح أن تؤدي إلى صدمة كبيرة في التدفقات التجارية والاستثمارية، حيث يُتوقع أن تقوم بلدان أخرى بفرض تدابير انتقامية، وهو ما قد يؤدي إلى دوامة من التخفيضات التنافسية لقيمة العملات وزيادة التعريفات الجمركية وفقاً لسياسة "إفقار الجار". والأهم من ذلك أن الرسوم الجمركية الأعلى لن تولد إيرادات كافية لتغطية تكلفة التخفيضات الضريبية، إذ يُقدر أن توّلد زيادة الرسوم الجمركية إيرادات إضافية بنحو 1.5 تريليون دولار، أي أقل من نصف التكلفة المقدرة للتخفيضات الضريبية المقترحة. ومن حيث التأثيرات عالية المستوى، فإن زيادة الرسوم الجمركية ستؤثر سلباً على إجمالي الدخل الحقيقي في بقية العالم وفي الولايات المتحدة، لأنها ستؤدي إلى ارتفاع تكاليف السلع النهائية والخدمات. لكنها من المحتمل أن تدعم الاستثمارات والتصنيع المحلي، حيث سيتعين إعادة تخصيص سلاسل التوريد، واستحداث شروط مراجحة جديدة لصالح المنتجين المحليين.
ثالثاً، قد يؤدي موقف ترامب تجاه الهجرة أيضاً إلى تداعيات كبيرة على التركيبة السكانية وأسواق العمل في البلاد، في حال عودته إلى البيت الأبيض، فهو يقترح الترحيل الجماعي لنحو 15 إلى 20 مليون مهاجر غير شرعي، فضلاً عن تقييد تدفق المهاجرين الشرعيين الذين يحملون تأشيرات دخول. وهذا أمر خطير، حتى بالنسبة لبلد يفوق تعداد سكانه 335 مليون نسمة ويبلغ فيه عدد القوة العاملة 162 مليون عامل. ورغم أننا لا نتوقع أن يتم سن هذا القانون بهذا النطاق إذا تم انتخاب ترامب، فإن تطبيق برنامج ترحيل أصغر حجماً من شأنه أن يساهم أيضاً في تضييق سوق العمل، وخاصة في فئة العمالة منخفضة الأجر التي تعمل بنظام الساعة. وعلى المدى المتوسط، قد يؤدي ذلك إلى زيادة متوسط نمو الأجور، مما يخلق ضغوطاً تضخمية إضافية. ومن شأن التركيبة الديموغرافية غير المواتية أن تؤثر سلباً على النمو.
وبشكل عام، فإن فوز ترامب بـ "رئاسة ثانية" من شأنه في نهاية المطاف أن يجلب تغيرات كبيرة في الأجندة الاقتصادية الأمريكية، وخاصة في مجالات المالية والتجارة والهجرة. وفي المجمل، ينبغي أن تكون لأجندته المقترحة تأثيرات متباينة على النمو، حيث يتعين أن تعزز السياسات المالية النشاط الاقتصادي، في حين أن تدابير الحمائية التجارية والإجراءات الأكثر صرامة في التعامل مع المهاجرين من شأنها أن تؤثر سلباً على نمو الناتج المحلي الإجمالي.
|
|
فريق QNB الاقتصادي
|
|
بيرنابي لوبيز مارتن
مدير أول – قسم الاقتصاد
|
لويز بينتو*
نائب رئيس مساعد – قسم الاقتصاد
|